كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن هنا كان الذين يجادلون في آيات الله من أهل الكتاب، إنما يجادلون في حق يعرفونه، ويمارون في آيات يعلمون صدقها. ومن كان هذا شأنه فخير موقف يتخذ معه، هو الإعراض عنه، وترك الجدل معه، لأن الجدل في هذا المقام، عقبم، وإن ولد شيئا، فإنما يلد دخانا ينعقد في سماء الحق، ويشغل القائمين على رسالته عما هو أنفع وأجدى. ولهذا كان من دعوة السماء إلى النبي الكريم قوله تعالى: {خُذ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بالْعُرْف وَأَعْرضْ عَن الْجاهلينَ} (199: الأعراف).
فقوله تعالى: {وَلا تُجادلُوا أَهْلَ الْكتاب إلا بالتي هيَ أَحْسَنُ}- هو بيان للموقف الذي يأخذه المؤمنون من أهل الكتاب فيما يكون بينهم من مواقف، تثار فيها بينهم قضايا، تتصل بالدين، عقيدة أو شريعة.
وهو أن يعرض المسلمون حقائق الإسلام كما حملتها آيات الله، بمنطق الناصح المرشد، لا المملى ولا المسيطر. {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلنَفْسه وَمَنْ عَميَ فَعَلَيْها}. إنه خير يدعى إليه الناس، ولا يحملون عليه حملا.
ومتى كان المحسن يأخذ المحتاج إلى إحسانه، بالقهر والقسر؟ وحسبه أن يمد إليه يده بما تحمل من إحسان، فإن تجاوز ذلك إلى ما يثير عداوة وبغضاء، انقلب الإحسان إساءة، والخير شرا.
والجدل، والمجادلة تكون باللسان، ومقارعة الحجة بالحجة، والأصل فيها القوة، يقال حبل مجدول، إذا كان مفتولا من حبلين، ولهذا سمى الصقر أجدل، لقوته وشدته.
وقوله تعالى: {إلا الذينَ ظَلَمُوا منْهُمْ} هذا استثناء من الحكم العام، في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك الاستثناء في شأن الذين يلقون تلك الدعوة بالشغب عليها، والتطاول على أهلها، والكيد لها ولهم.
إن الأمر حينئذ يخرج عن هذا المجال، إلى رد عدوان، ودفع ظلم، وردع بغى. والله سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُ إلى سَبيل رَبكَ بالْحكْمَة وَالْمَوْعظَة الْحَسَنَة وَجادلْهُمْ بالتي هيَ أَحْسَنُ إن رَبكَ هُوَ أَعْلَمُ بمَنْ ضَل عَنْ سَبيله وَهُوَ أَعْلَمُ بالْمُهْتَدينَ وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقبُوا بمثْل ما عُوقبْتُمْ به وَلَئنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْر للصابرينَ} (125- 126: النحل).
والذين ظلموا من أهل الكتاب، هم أولئك الذين امتلأت قلوبهم ضغينة على الإسلام، وحقدا عليه، فكانوا حربا على المسلمين والإسلام، بالكيد والفتنة، وإشعال نار الحرب الظاهرة والخفية على رسول الله وعلى المؤمنين. ولهذا كان وصفهم بالظلم، كاشفا عن عدوانهم وبغيهم، إنهم معتدون لا معتدى عليهم، وظالمون غير مظلومين، فإذا أخذوا بعدوانهم، وبظلمهم، فذلك بما جنته أيديهم: {فَلا عُدْوانَ إلا عَلَى الظالمينَ} (193: البقرة).
أما الأسلوب الذي تجرى عليه معاملة هؤلاء الظالمين، فهو على حسب ما كان منهم من ظلم، بلا بغى أو عدوان.
وفي الآية الكريمة- وهى مكية- إشارة إلى مستقبل الإسلام، وإلى ما سيكون بينه وبين أهل الكتاب من تلاحم، بالقول، وبالفعل.
بالجدل بالتي هي أحسن أولا، فإن كان عدوان فبالعدوان: {وَلَمَن انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمه فَأُولئكَ ما عَلَيْهمْ منْ سَبيلٍ} (41: الشورى).
قوله تعالى: {وَقُولُوا آمَنا بالذي أُنْزلَ إلَيْنا وَأُنْزلَ إلَيْكُمْ وَإلهُنا وَإلهُكُمْ واحد وَنَحْنُ لَهُ مُسْلمُونَ}- هو بيان لمقولة المسلمين، في مقام الجدل بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، وفي مواجهة غير الظالمين المعتدين منهم.
فالمسلمون يؤمنون بالكتب السماوية إيمانا مجملا، باعتبار أنها من عند الله، وأنه إذا كان أهل الكتاب قد غيروا وبدلوا فيما بين أيديهم من كتب الله، من التوراة والإنجيل، فإن هذه الكتب في أصلها حق من عند الله، فما كان منها متفقا مع كتاب الله آمن المسلمون بأنه من عند الله، وما خالف كتاب الله، فما على المسلمين شيء منه، وإنما إثمه على الذين بدلوا وحرفوا.
على أنه مهما كان من اختلاف بين أهل الكتاب وبين المسلمين، فإن هناك قضية لا يجوز الاختلاف فيها، وهى الإيمان بإله واحد، هو القائم على هذا الوجود، وهو الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب. فإذا كان من أهل الكتاب من يختلف في هذه القضية، فقد ناقض دعواه بأنه من أهل الكتاب، وقطع السبب الذي يصله بالله، وبرسول الله الذي حمل هذا الكتاب. {فَإنْ آمَنُوا بمثْل ما آمَنْتُمْ به فَقَد اهْتَدَوْا وَإنْ تَوَلوْا فَإنما هُمْ في شقاقٍ} (137: البقرة).
قوله تعالى: {وَكَذلكَ أَنْزَلْنا إلَيْكَ الْكتابَ فَالذينَ آتَيْناهُمُ الْكتابَ يُؤْمنُونَ به وَمنْ هؤُلاء مَنْ يُؤْمنُ به وَما يَجْحَدُ بآياتنا إلا الْكافرُونَ}.
الخطاب للنبى الكريم، من الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه قد أنزل عليه الكتاب، كما أنزله على المرسلين من قبله. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- كما يدعى إلى الإيمان بما أنزل على رسل الله، فقد دعى المرسلون قبله إلى الإيمان بالكتاب الذي أنزل عليه. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَالذينَ آتَيْناهُمُ الْكتابَ يُؤْمنُونَ به}. فالذين آتاهم الله الكتاب، هم الرسل من أصحاب الكتب المنزلة، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَإذْ أَخَذَ اللهُ ميثاقَ النبيينَ لَما آتَيْتُكُمْ منْ كتابٍ وَحكْمَةٍ ثُم جاءَكُمْ رَسُول مُصَدق لما مَعَكُمْ لَتُؤْمنُن به وَلَتَنْصُرُنهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلكُمْ إصْري قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ منَ الشاهدينَ} (81: آل عمران).
والضمير في قوله تعالى: {يُؤْمنُونَ به} يعود إلى القرآن، وهو {الكتاب} في قوله تعالى: {وَكَذلكَ أَنْزَلْنا إلَيْكَ الْكتابَ}.
والمشار إليه في قوله تعالى: {وَمنْ هؤُلاء مَنْ يُؤْمنُ به} هم أهل الكتاب المعاصرون للدعوة الإسلامية، و{من} للتبعيض. أي ومن بعض هؤلاء من اليهود والنصارى، من يؤمن بالكتاب، وهو القرآن كما آمن به موسى، وعيسى، والنبيون من قبل.
أما القول، بأن المراد من قوله تعالى: {فَالذينَ آتَيْناهُمُ الْكتابَ يُؤْمنُونَ به} هم اليهود والنصارى المعاصرون للدعوة الإسلامية، وأن قوله تعالى: {وَمنْ هؤُلاء مَنْ يُؤْمنُ به} مراد به المشركون من قريش، كما يذهب إلى ذلك المفسرون، قديما، وحديثا، فهذا ما لا نراه، ولا نأخذ به.
فالموقف هنا، في مواجهة أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وبالكتب المنزلة من عند الله، كما آمن النبي والمؤمنون، بالله، ورسله، وكتبه.
هذا، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن إيمان النبيين الكريمين موسى وعيسى بالقرآن، هو حجة على أهل الكتاب، وإلزام لهم بمتابعة الرسول الذي حمل إليهم الكتاب الذي يؤمنون به. من التوراة أو الإنجيل، وإلا فهم حارجون على رسولهم، وعلى الكتاب الذي بين أيديهم.
ومن جهة ثالثة، فإن الإشارة إلى مشركى العرب بأنهم آمنوا بالقرآن- لا محصل له في هذا المقام، ولا حجة منه على أهل الكتاب، وحسب القائل منهم أن يدفع هذا بقوله: بأن هؤلاء المشركين أميون، فكيف يكون إيمانهم حجة عليهم.؟ فإن لم يقل قائلهم هذا القول، كان له أن يقول:
إن محمدا هو- إن صح أنه رسول- فهو رسول إلى قومه هؤلاء، وهو حجة عليهم لا علينا! وهذا قول- وإن كان باطلا- فإن الجدل يتسع له، وخاصة في أول الدعوة الإسلامية، التي كانت دعوتها متجهة أول الأمر إلى العرب، كما يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ في الْأُميينَ رَسُولًا منْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهمْ آياته وَيُزَكيهمْ وَيُعَلمُهُمُ الْكتابَ وَالْحكْمَةَ وَإنْ كانُوا منْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ} (2: الجمعة).
ومن جهة رابعة، فإن قوله تعالى: {فَالذينَ آتَيْناهُمُ الْكتابَ يُؤْمنُونَ به} إذا فهم على ما قرره المفسرون من أنه مراد به أهل الكتاب المعاصرون للدعوة، فإنه يصادم الواقع، إذ أن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن، لا في عصر النبوة، ولا بعده، وإن الذي آمن منهم به نفر قليل بالإضافة إلى الكثرة الكثيرة التي ظلت على ما وجدها القرآن عليه.
وليس يشفع لهذا القول، ويدفع عنه هذا التناقض، ما سيق له من تخريجات، كما قيل بأن المراد بقوله تعالى: {يُؤْمنُونَ به} هو أن من شأنهم أن يؤمنوا، لو أنهم أخلوا أنفسهم من الحسد، والغيرة، لما يلقاهم به القرآن من آيات بينات، تنكشف في أضوائها معالم الطريق إلى الحق، لكل ناظر فيها، ملتمس الهدى منها. وكما قيل أيضا، من أن المراد بالذين يؤمنون به من أهل الكتاب، هم الذين آمنوا فعلا، وهؤلاء وإن كانوا قلة، فإنهم هم كل أهل الكتاب، الذين انتفعوا بالكتاب الذي في أيديهم.
أما غيرهم من أهل الكتاب، فلا حساب لهم.؟!.
وهذه لا شك مما حكات، متهافتة، ودعاوى واهية، تتداعى لأية لمسة من نظرة عقل، أو لمحة منطق.
ثم من جهة خامسة، أن قوله تعالى: {وَمنْ هؤُلاء مَنْ يُؤْمنُ به} لا يصدق على العرب إلا في مرحلة من مراحل الدعوة، وفي بدئها، أما بعد ذلك فقد دخل العرب جميعا في دين الله، وآمنوا جميعا بالله، لا أفرادا معدودين منهم، كما هو منطوق النظم القرآنى: {وَمنْ هؤُلاء مَنْ يُؤْمنُ به}! هذا- والله أعلم- هو الرأى الذي يستقيم على طريق الآية الكريمة، ويسير في أضواء نظمها المشرق المعجز.
وسنرى، في الآيات التالية ما يزيد هذا الرأى وضوحا وتمكينا.
قوله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا منْ قَبْله منْ كتابٍ وَلا تَخُطهُ بيَمينكَ إذًا لَارْتابَ الْمُبْطلُونَ}.
هذا الخطاب للنبى الكريم من ربه سبحانه وتعالى، يكشف لأهل الكتاب، الذين كانوا في هذه البيئة الأمية جامعة العلم، وأساتذة طالبيه- هذا الخطاب يكشف لهم عن حقيقة جهلوها وتجاهلوها، وهى أن هذا الأمى في الأمة الأمية، لم يكن ممن ألموا بشىء من القراءة والكتابة، حتى على هذا المستوي المتواضع الذي كان لبعض نفر قليل من قومه، ممن عرفوا القراءة والكتابة، ومع هذا فهو يحمل في صدره، وعلى لسانه، وبين يديه، كتابا عجبا، يعلو بسلطانه على كل كتاب، ويستولى بعلمه على كل علم، ويقطع بحجته كل حجة، ويقهر بمنطقه كل منطق، ويفحم ببيانه كل بيان!.
فمن أين لهذا الأمى بهذا كله؟.
وإذا كان للأميين المشركين أن يقولوا- جهلا- {إنما يُعَلمُهُ بَشَر} وإذا كان لهم أن يقولوا- استبعادا أو استعظاما- إنه أخذ هذا العلم عن بعض العلماء من أهل الكتاب- فماذا يقول أهل الكتاب في هذا الكتاب؟ وإلى أي نسب ينسبونه، وإلى أي عالم منهم يسندونه؟.
إنه لم يجرؤ أحد من أهل الكتاب أن يقول كلمة واحدة في نسب هذا الكتاب إلى علمهم، أو إضافته إلى أحد من علمائهم. وقد كان لهم- وهم أصحاب العلم- أن يقولوا شيئا من هذا الذي كان يقوله الأميون، لو أنهم وجدوا لهذا القول مكانا- أي مكان- ولو من قبيل التلبيس والتشكيك.
فلقد كان المدى بعيدا بين هذه الشمس المتألقة في كبد السماء، وبين الأيدى التي تحاول الإمساك بها، وعقد سحب من الظلام في وجه أضوائها المتدفقة!.
ومن هنا، فإنه لا سبيل لأهل الكتاب أن يرتابوا في نسبة هذا الكتاب إلى الله، وأن يقولوا بأن إنسانا أميا، في أمة أمية، يمكن أن يكون هذا الكتاب، أو شيء منه، من عمله. وأنه إذا كان يمكن أن يرد عليهم شيء من الشك في أن إنسانا، قارئا، كاتبا، دارسا، يمكن أن يأتى بمثل هذا الكتاب، فإن مثل هذا الشك يكون مستحيلا، إذا جاء الكتاب على يد أمي، ما عرف القراءة والكتابة، ولا حضر مجالس الدرس والتحصيل.
وقد أثار المفسرون جدلا طويلا حول ما إذا كان الرسول قد عرف القراءة والكتابة بعد البعثة أم لا. وقال كثير منهم إنه- صلوات الله وسلامه عليه- قد عرف القراءة والكتابة بعد بعثته. وهذا أمر ما كان يصح أن يكون موضع بحث أو خلاف، فقد جاء القرآن ناطقا صريحا بأمية النبى، وجعل هذه الأمية صفة دالة عليه، يجده عليها أهل الكتاب في كل حال يلقونه عليها. وفي كل زمن يوجهون وجوههم إليه. فالله سبحانه وتعالى يقول: {الذينَ يَتبعُونَ الرسُولَ النبي الْأُمي الذي يَجدُونَهُ مَكْتُوبًا عنْدَهُمْ في التوْراة وَالْإنْجيل يَأْمُرُهُمْ بالْمَعْرُوف وَيَنْهاهُمْ عَن الْمُنْكَر وَيُحل لَهُمُ الطيبات وَيُحَرمُ عَلَيْهمُ الْخَبائثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهمْ} (157: الأعراف). والأمية هنا لا شك هي أمية القراءة والكتابة، أما أمية العلم، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه- بما علمه ربه- عالم العلماء، وحكيم الحكماء، كما يقول سبحانه وتعالى مخاطبا له: {وَعَلمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظيمًا} (113: النساء).
فكيف إذن يكون النبى قد خرج عن صفة الأمية بعد البعثة، وعرف القراءة والكتابة، ثم يكون بهذا حجة على أهل الكتاب الذي يجدون وصفه في التوراة والإنجيل، نبيا أميا في الأميين؟ ثم ما حاجة النبى إلى أن يعرف القراءة والكتابة بعد النبوة؟ أ كان ينقل الكتاب الذي بين يديه عن كتب أخرى حتى يضطره ذلك إلى معرفة القراءة والكتابة؟ أم ماذا؟
لا نجد جوابا! قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيات بَينات في صُدُور الذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَما يَجْحَدُ بآياتنا إلا الظالمُونَ}.
الضمير {هو} يعود إلى الكتاب. في قوله تعالى: {وَكَذلكَ أَنْزَلْنا إلَيْكَ الْكتابَ}. والذين أوتوا العلم، هم العلماء من أهل الكتاب.
أي أن هذا الكتاب يقع في صدور العلماء من أهل الكتاب موقع المعجزات البينات، حيث تنطق آياته بالحق المبين، يتلقاه منها كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وفي هذا يقول الله تعالى كاشفا للمشركين عن عنادهم وضلالهم: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَني إسْرائيلَ} (197: الشعراء).
أي أنه إذا لم يكن عند المشركين علم يعلمون يعرفون به قدر هذا الكتاب، ويفرقون به بين ما هو سماوى وما هو أرضى أفلا كان لهم في علم العلماء من أهل الكتاب، بهذا الكتاب، وإيمانهم به، عبرة يعتبرون بها، ومعلم من معالم الهدى، يهتدون به إلى هذا الكتاب؟.
وقوله تعالى: {وَما يَجْحَدُ بآياتنا إلا الظالمُونَ}. إشارة إلى علماء أهل الكتاب، الذين يعرفون الحق في كتاب ثم ينكرونه، من بعد ما عرفوه.
وفي هذا يقول الله تعالى: {فَلَما جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا به فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكافرينَ} (89: البقرة) ووصفهم بالظلم، هو الوصف الحق لهم، إذ كتموا شهادة الحق الذي عرفوه والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ ممنْ كَتَمَ شَهادَةً عنْدَهُ منَ الله} (140: البقرة).
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزلَ عَلَيْه آيات منْ رَبه قُلْ إنمَا الْآياتُ عنْدَ الله وَإنما أَنَا نَذير مُبين}.
بعد هذه اللفتة العارضة إلى أهل الكتاب، وأسلوب مجادلة المؤمنين لهم، وما عند علمائهم من علم بهذا القرآن- بعد هذا عادت الآيات لتصل الحديث مع المشركين، وتكشف عن مقولة من مقولاتهم الفاسدة الحمقاء في مواجهة الدعوة الإسلامية، ومدعياتهم عليها، وعلى المرسل إليهم بها فهم يرتابون في أن يكون محمد على صلة بالسماء، وأن يكون هذا الكتاب الذي بين يديه من عند الله، وقد أقاموا منطقهم هذا على أنه لو كان هذا شأن محمد، لجاءهم بآية محسوسة، كما جاء الرسل قبله إلى أقوامهم بآيات محسوسة، وفي هذا يقول الله على لسانهم: {فَلْيَأْتنا بآيَةٍ كَما أُرْسلَ الْأَولُونَ} (5: الأنبياء) وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: {قُلْ إنمَا الْآياتُ عنْدَ الله وَإنما أَنَا نَذير مُبين} أي أننى بشر مثلكم، لا أملك من أمر الله شيئا، وإنما أنا نذير مبين أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفهمْ أَنا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكتابَ يُتْلى عَلَيْهمْ إن في ذلكَ لَرَحْمَةً وَذكْرى لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ}.
هو رد آخر، على ما يقترحه المشركون على النبى من آيات، وفي هذا الرد إنكار عليهم أن يطلبوا آيات مع هذه الآيات التي تتلى عليهم.
إنها آيات لا تغرب شمسها، ولا يخبو ضوءها أبد الدهر.
وفي قوله تعالى: {إن في ذلكَ لَرَحْمَةً} إشارة إلى أن هذه الآيات لا تحمل معها نذر الهلاك الذي تحمله الآيات التي يقترحونها، فإنه لو جاءتهم آية من تلك الآيات لكفروا بها، ثم كان مصيرهم مصير الكافرين المكذبين، كعاد، وثمود، وفرعون! فهذه الآيات القرآنية رحمة من رحمة الله بهم.
وفي قوله تعالى: {وَذكْرى لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} إشارة أخرى إلى أن آيات الكتاب في معرض البحث والنظر، وفي مجال التعقل والتأمل، يعيش معها الإنسان ما يشاء، ناظرا فيها، متأملا مواقع الإعجاز منها، فيجد بهذا طريقه إلى الحق والهدى، إذا كان صالحا لقبول الخير، مستعدا للتجاوب مع الحق!.
قوله تعالى: {قُلْ كَفى بالله بَيْني وَبَيْنَكُمْ شَهيدًا يَعْلَمُ ما في السماوات وَالْأَرْض وَالذينَ آمَنُوا بالْباطل وَكَفَرُوا بالله أُولئكَ هُمُ الْخاسرُونَ}.
هذا هو نهاية الموقف الذي يقفه النبي من المشركين إنه يشهد الله عليهم، أنه بلغهم رسالة ربه، وأنهم في عناد وتكذيب والله سبحانه وتعالى يعلم ما في السموات والأرض، ويعلم ما يسر هؤلاء المشركون وما يعلنون وعند الله سبحانه عذاب شديد للضالين المكذبين، الذين يؤمنون بالباطل، ويقيمون في رحابه آلهة يعبدونها من دون الله. إنهم هم الخاسرون. {وَسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أَي مُنْقَلَبٍ يَنْقَلبُونَ}. اهـ.